تدقيق: أ.د أمجاد آل طالب المصدر
الكل يريد المزيد، الجميع يريد البيت الأكبر، والسيارة الأسرع، والبدلة الأكثر أناقة. عندما يصدر الهاتف الأحدث نريده، نحتاجه. عندما نكسب ست خانات نريد سبع، وإذا ما حالفنا الحظ لنصل إلى سبع خانات نريد ثمان، الجميع دائماً يريد المزيد.
لكن ماذا سيحصل لو رغب الجميع في الأقل؟
ماذا لو عرضت على أحدهم قصرًا فأجابك ببساطة: “لا شكرًا، شقة الاستديو الخاصة بي مناسبة تمامًا”، ماذا لو عرضت على أحدهم بدلة من ماركة أرماني وأجابك:
“لا داعي، فلدي كل الملابس التي أحتاجها”
لأن هذا – وبشكل مثير للاهتمام- يجعل الناس أقرب للسعادة أكثر مما تتصور!
عندما كنت طفلا لم أكن أعرف ماذا أريد أن أصبح حين أكبر. أراد أصدقائي أن يصبحوا رجال إطفاء، أو جنودًا عسكريين، أو متسابقي سيارات سباق، إلا أنا، لا شيء من ذلك استمالني، الأمر الوحيد الذي علمته يقينًا هو أنني أردت أن أصبح ثريًا.
واستمر هذا الحلم طوال سنين مراهقتي وحتى الرشد، عندما بدأت العمل كمحاسب كنت أتملق عند حسابات عملائي البنكية مملوئًا بالحسد.
كنت أقول لزميلي: “تعال ألقِ نظرة على هذه”، كنا نجثم حولها محدقين في الأصفار اللامنتهية في ذهول من هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يطلبون سيارات أوروبية مثل الدومينو، ويعيشون في منازل تساوي ملايين الدولارات. كنت أمعن النظر في كشوف حساباتهم كاملة ناظرًا في حفلات العشاء ذات الألفي دولار التي كانوا يشترونها، وتسوق نهاية الأسبوع التبذيري على الثياب والمناسبات.
كنت أبتسم لنفسي وأقول: “سأكون كذلك يومًا ما”.
كنت سأرتقي من هذا العمل المزري، وأعمل في بنك كبير في لندن، وأحظى بوظيفة على شارع وال ستريت. كنت سأصبح ذلك الرجل الذي يقود سيارته ذات الأربع مئة ألف دولار حول ملتقى شارعين ويتوقف الجميع ليشاهدوه يتجاوزهم.
امتلكت حياة كريمة لكنني أردت المزيد، لطالما أردت المزيد.
بدأت رحلتي الأولى إلى أفريقيا تغيّر ذلك، عملت مع العديد من الأطفال والعوائل المستضعفة خلال فترة إقامتي هناك، ومن المثير للاهتمام أنني أصبحت أعجب بهم أكثر مما كنت أعجب بأصحاب الملايين في ملف عملائي، أجبرني هذا على التساؤل حول قيمة حلمي، وإلى أين كان يأخذني، وأخذت أتساءل لم كنت أبحث عن حياة ذات إفراط بينما كنت أملك كل شيء يمكن أن أكون في حاجة إليه.
أمضيت السنوات الثلاث التالية مسافرًا حول العالم، وبوجود هذه الأفكار في أسفل رأسي، بدأت أتقبل نمط الحياة الأبسط. توقفت عن شراء أغراض جديدة، ببساطة لأنني لا أملك متسعاً لحملها، وعندما توقفت عن شراء أغراض جديدة، فقد توقفت عن الرغبة في أغراض جديدة، وعندما توقفت عن الرغبة في أغراض جديدة لاحظت أن الأغراض الجديدة لم تكن تملك أي تأثير على سعادتي مطلقًا.
بخمسة قمصان فقط كنت أشعر بجسدي تمامًا كما كنت أشعر به عندما كنت أملك عشرين قميصًا.
بزوج واحد من الأحذية شعرت بقدمي كما كنت أشعر بها عندما كنت أملك خمسة أزواج. وبطريقة ما، لم تشتكِ كتفاي من ارتدائي السترة نفسها كل يوم.
عوضًا عن رغبتي في المزيد رغبت بالأقل، وأدركت تدريجيا أنني كنت أطارد الأشياء الخاطئة منذ البداية، طيلة تلك السنين كنت أعمل أربعين ساعة أسبوعياً لأشتري أكثر وأمتلك أكثر، والآن على نحو مفاجئ لم يعد هناك ما أود شراءه، بالتالي مالذي تفيدني فيه الوظيفة بعد ذلك؟ ما الذي كان من المفترض أن أعمل لأجله؟
لا شيء.
لم يكن علي أن أعمل من أجل أي شيء. كنت حُرًا.
وهكذا تحقق حلمي، وأصبحت ثريًا.
بانقضاء العام المنصرم فإنه بإمكاني أن أعد على يد واحدة الأشياء الملموسة التي اشتريتها بتكلفة تزيد عن مئة دولار.
شيئان.
هاتف نقال وعصارة
تمكنت على نطاق واسع من إزالة “الكماليات” من حياتي، وبالرغم من عدم حصولي على الكثير من المال وعدم شرائي الكثير من الكماليات، إلا أن السنة التي مضت كانت من أثرى سنوات حياتي. دون هم الوظيفة، والرهن، والسيارة، وبيت مليء بالأغراض، تمكنت من أن أقضي أيامي كلها في المزيد من الأنشطة التي تشبع الذات كالكتابة والقراءة والتعلم والتأمل والاستكشاف وممارسة الرياضة والطبخ والاسترخاء، ومن المثير للاهتمام أن كل هذه الأشياء مجانية تقريبًا، قد يقول بعضهم أنني أعيش كمليونير متقاعد، وقد أكون كذلك لكنني لا أملك الكثير من المال إطلاقًا. تعلمت أنك حين تتوقف عن ابتياع الأشياء تتوقف عن الاحتياج للكثير من المال، وعندما تتوقف عن الاحتياج للمال لن تحتاج إلى وظيفة ثابتة، وعندما لا تملك وظيفة ثابتة، يتسنى لك الوقت، وحين يتسنى لك الوقت يمكنك حرفيا أن تفعل ما يحلو لك، أوليس هذا معنى السعادة؟ أن تفعل ما يحلو لك؟
في الغرب خصوصًا نحن نعطي قيمة كبيرة للأشياء المادية، غالبا ما نعرّف الناس بما يملكون عوضًا عن تعريفهم بمن هم، أذكر أنني ذات يوم سألت صديقتي عن أحد أفراد عائلتها: ” من هو؟ صفيه لي”، فأجابت: “إنه يملك طائرة مروحية”. حيرني الأمر، أيكون هو؟ طائرة مروحية؟ أعتقد أن هذا كان سيثير إعجابي قبل عدة سنوات مضت، لكن الواقع هو أن الأشياء هي مجرد أشياء، ولا علاقة لها بمن تكون أنت.
اسأل نفسك من تكون كشخص؟ مالذي تريد أن تصبح عليه؟ ماذا تريد أن تتعلم، أن تتقن، أن تجرب، أن ترى؟
لأن ما يجعلك ثريا وفريدًا ليس ما بحوزتك، وإنما كيف عشت، إنها الحكايات التي جمعتها ومراحل الحياة التي وصلتها، إنها الذكريات التي عليك أن تحملها معك.
بما أني كنت أسافر، فقد حظيت بالكثير من رحلات الطيران وجولات الحافلات للجلوس والتأمل، والشيء الوحيد الذي طالما كنت أفكر فيه هو السعادة. ما معناها؟ ومن أين تأتي؟
الكثير منكم -كما كنت أنا- قد يعتبر أن حصوله على شقة أحلامه، أو سيارة أوروبية، أو نظرة سريعة على دولاب مليء بثيابه المفضلة، والفوز بمليون دولار في اليانصيب سيوصله إلى السعادة. لكن تخيل أن تحظى بكل ذلك غدًا، ارسم صورة في ذهنك وأنت محاطٌ بكل هذا، ماذا ستفعل فيما بعد ذلك؟ أفترض أنك ستقول أنك ستمضي بقية عمرك في ممارسة الأشياء التي تحب، كالسفر أو الاسترخاء على الشاطئ والتجوال، أو كتابة الموسيقى، أو قضاء الوقت مع أطفالك؛ لكنك لو فكرت في الأمر، فأنت بالفعل تستطيع القيام بكل تلك الأمور، أنت لست بحاجة إلى المنزل، أو السيارة أو المليون دولار من أجل هذا الرضا الذاتي. بل ينبغي أن تعلم أن السعادة لا علاقة لها بهذه الأشياء المادية مطلقًا.
إذا وجدت نفسك غير سعيد، ولا تملك الوقت أو المال لتعيش الحياة التي تتوق لها فابدأ بسؤال نفسك، لماذا؟ إلامَ تفتقد في حياتك؟ فعلى الأرجح أنك تقضي الكثير من الوقت في العمل، ودون ما يكفي من الوقت في الأشياء التي تحب؛ لكن علامَ تعمل بكل هذا الجهد؟ ما الذي تحتاج إلى شرائه ولا تملكه حاليًّا؟
هناك مثل سويدي فيما معناه: “إن الذي يشتري ما لا يحتاج إنما يسرق من نفسه“، استقطع لحظة للتفكير في الكم الذي سرقت من نفسك، فيم أنفقت مرتبك العام الماضي؟ هل كانت أشياء أساسية لبقائك على قيد الحياة؟ هل ستتذكر هذه الأشياء بعد عشر سنوات من الآن؟
يمكنك شراء سيارة بعشرة آلاف دولار، أو يمكنك السفر حول العالم لسنة، يمكنك شراء جهاز آيباد بألف دولار، أو يمكنك حجز عشر رحلات طيران حول آسيا، تستطيع شراء شقة بثمان مئة ألف دولار، أو أن تمضي بقية حياتك مسترخيا في أكواخ مقابل الشاطئ بعشرين دولار في اليوم.
فكر في الأشياء التي تبتاعها، هل تقرّب حلمك أم تدفعه بعيدا؟
في كتاب “The 4 hour work week”، يتحدث الكاتب عن تكلفة أسلوب الحياة وتصميمه، والمسلّمة الأساسية هي: ما هو أسلوب الحياة المثالي بالنسبة لك، وكم تكلفة عيشه؟
أنا أحب آسيا فبالنسبة لي ربما سأعيش هناك على الأقل مبدئياً. مبيت مريح باثني عشر دولار في الليلة، وطعام رائع بخمسة دولارات في اليوم، وتدليك بخمسة دولارات وتكاليف متفرقة قد تبلغ خمسة دولارات إضافية، هذا يعادل سبعة وعشرين دولار في اليوم لعيش حياة مريحة على الشاطئ (أو في المدينة)، لذا وعلى نحو مثالي، فإن هذا ما سأسعى لكسبه، وسأقضي بقية وقتي في عيش هذه الحياة الهانئة أي: في ممارسة ما أحب.
ماذا عنك؟ كم تحتاج من المال حقًّا؟
جمال هذه المعادلة يكمن في إبراز قيمة البساطة. إن كان أسلوب حياتك مكلفا للغاية، فارغب في الأقل، تدبر أمرك بالأقل. الكل يملك الخيار بين العيش مع المزيد من الأشياء مقابل المزيد من العمل، أو العيش بالأقل والتقليل من العمل. أيهما ستختار؟
يسألني الناس عادة ما سري؟ كيف أفعل ذلك؟ كيف أقضي السنة كلها مسافرًا حول العالم؟
أفترض أن هناك سر، ولأعيش نمط الحياة هذا فلطالما كان الأمر متعلقا بشيء واحد: تقليل إنفاق المال.
كل ما يهمني يمكنني أن أجد له مكانا في حقيبة ظهري بسعة كافية، هناك زوجان من الأحذية في الداخل، حاسوبي المحمول، آلة التصوير، بعض الثياب، وبعض أدوات النظافة، ولا شيء آخر. أعيش بمحتويات هذه الحقيبة على مدار السنة، ولا أحتاج أكثر من ذلك ولا أقل، أكاد أشعر أنني لا أمتلك شيئًا لكنني حقيقةً أمتلك أكثر مما قد أحتاج.
لا أذكر آخر مرة “تسوقت” فيها، ولا أذكر آخر مرة اشتريت فيها قميصًا جديدًا، ولا أقضي يومي أحلم بأشياء أود شراءها، بل أقرأ عن أشياء أود تعلمها، وأكتب عن أشياء تشغل بالي، وأرى أماكناً لطالما أردتها. ألتقط صورًا، أنام، أمشي، أتمرن، أقرأ وأكتب، أستكشف وأسترخي، هذا يومي.
في هذا العصر المليء بالاستهلاك المفرط والإنفاق المبالغ، تحررت ببساطة من خلال عيشي حياة بسيطة، لم تعد تغريني الأشياء البراقة، ولم أعد أؤمن بكذبة أن النجاح يكون بكسب المزيد وشراء المزيد، أنا أشتري ما أحتاج فقط، وببساطة أعيش.
في فيلم “fight club”، قال تايلور دوردن عبارته الشهيرة: “الأشياء التي تملكها تملكك في النهاية“، تشتري منزلا فيملكك، لن تستطيع التوقف عن العمل بسببه، ولن تستطيع السفر بسببه، ولن تستطيع قضاء المزيد من الوقت مع عائلتك بسببه، ولن تتمكن من ترك وظيفتك بسببه، يتمحور يومك كله، حياتك كلها، حول كسب المزيد من المال لتدفع ثمن منزلك.
اسأل نفسك: أتملك المنزل؟ أم المنزل يملكك؟
عندما تشتري سيارة فأنت تحتاج مالاً، تحتاج لتصلحها وتنظفها، عليك أن تدفع البنزين والتأمين والرخصة والموقف، وتقلق بشأن مكان تركها، أو إن كان أحد سيبعجها، أو إن كانت ستسرق، أو إن تم تسجيلها مخالفة، السيارة التي طالما تمنينها هي الآن تشغل تفكيرك، وتستنزف وقتك ومالك وطاقتك.
اسأل نفسك: أتملك السيارة؟ أم السيارة تملكك؟
عندما تحل نهاية الأسبوع أخيرا، فلديك يومان ثمينان متفرغان، لكن عليك قضاؤهما في تنظيف المنزل، والسيارة، والقارب، والبيت الثاني، والثياب، والمرآب، والحديقة.
دعني أسألك: ماذا لو لم تمتلك شيئًا؟ كم ستكون الحياة أبسط؟ فبدلا من اضطرارك لتنظيف خمس غرف، عليك تنظيف ثلاث فقط؟ غرفتان؟ واحدة؟! كم من الوقت الإضافي ستملك لتقرأ، لتركب الأمواج، لتعزف البيانو، لتخرج للعشاء، لتسافر، لتتأمل النجوم، لترقص؟
عوضا عن الرغبة في المزيد، ربما حان الوقت لنفكر في الأقل، وعوضا عن ملء أرففك؛ فرّغها، وبدلا من شراء شيء كل نهاية أسبوع، بِع شيئًا، وعوضا عن رغبتك في كل شيء، لا ترغب في شيء إطلاقاً.
فقد تجد أن الوصول لأحلامِك يغدو أسهل بكثير، إذا ما اعترضت طريقك أغراض أقل.
إرسال تعليق